استمعوا إلى قصة سارة صالح بالضغط على الرابط الصوتي المرفق بالصورة أعلاه.
أو عبر منصات البودكاست المفضلة لديكم هنا
عام 1999 وفي ليلة 31 كانون الأول/ ديسمبر، وبينما كان الناس يملؤون الشوارع للاحتفال بالعام الجديد في مدينة سيدني، استيقظت سارة على صوت يجهش بالبكاء.
ارتباكها تحول إلى خوف وقفزت سارة من سريرها وركضت إلى غرفة المعيشة. ورغم سنها الصغيرة أدركت أن هناك أمر جلل قد حدث. قالت سارة "كان أبي، بشعره غير المرتب و ثياب نومه المقلمة، يعزي أمي التي كانت تبكي على الأريكة. لم أرها تبكي هكذا من قبل."
التفت لي أبي وقال "لقد تلقينا للتو مكالمة من عمك في لبنان، جدو الآن مع الله." وطمأنني بقوله "لا تقلقي يا حبيبتي، وعودي إلى النوم."
كانت هذه أول محادثة تجريها سارة صالح عن الموت، مقتضبة وبلا تفاصيل، وانتهت بعودتها إلى النوم.سارة الآن طالبة دكتوراة في كلية القانون بجامعة نيو ساوث ويلز، كما أنها شاعرة وناشطة تحمل جذورها المصرية، اللبنانية-الفلسطينية بفخر.
Sara Saleh Source: Supplied
تتذكر سارة ما حدث اليوم التالي، حيث طارت والدتها إلى بيروت، ولكن منزلها في سيدني، كانت تسير فيه الأمور بشكل طبيعي، كأن شيئا لم يحدث.
قالت سارة "ربما أراد بابا حماية طفولتي" واستطردت "اعتقد أن طريقة تعامله في هذا الموقف كانت أسهل من محاولة شرح الموت لي."
لم يغادر جدها جميل مخيلتها، فكانت تفكر فيه كثيرا بعينيه الزرقاوين وشعرة الأبيض، كأنه نسخة أصغر حجماً من بابا نويل. تقول سارة بفخر: "كان يغني لي دائمًا أهازيج عربية لفيروز بصوته الرائع، أنا ورثت صوته في الغناء (وليس أمي)."سارة التي كان عمرها لا يتجاوز أثنا عشر عاما كانت تدرك أنها لن ترى جدها مرة أخرى، لكنها لم تعرف كيف تتعامل مع فكرة رحيله.
Sara Saleh Source: Supplied
كان من الأسهل عليها قبول المفاهيم الغربية عن الموت واستخدام عبارات مثل "لديك فقط حياة واحدة." تشرح سارة: "لم أكن أرغب في الالتزام بأي اعتقاد حول ما يحدث بعد ذلك."
لكن محاولات تجنب التفكير في الموت انتهت في عام 2014، أي عندما بلغت سارة عمر السابعة والعشرين: "توفيت عطا، جدتي، والدة أبي، شخصيتي المفضلة في العالم بأسره، بعد سنوات من المرض."
استمعوا لمقتطفات من حلقات بودكاست الهوية
My Arab Identity بودكاست الهوية
لم تكن هذه المحادثة مع الموت قصيرة كسابقتها: "كنت متعبة جدًا، وحزينًة جدًا حتى لمجرد الكلام، والرد على الكثير من "الله يرحمها" و "تعازينا" التي سمعتها منذ صلاة الجنازة وفي جلسات تلاوات القرآن، ودوائر الدعاء التي عقدت في منزلنا كل ليلة لمدة أسبوع."
"حافظت على هدوئي بشكل كبير خلال عام 2014، كنت أخبر الجميع أنني بخير، وحاولت أن أشغل نفسي بالعمل والصلاة لأخفي حزني في قلبي، لي وحدي".
"كنت ممتنة جدا لوجود مجموعة من أعمامي وعماتي والكثير من الأهل (ليس بالدم بل مرتبطون بمحاولاتنا إيجاد الألفة في أراضٍ أجنبية وإيجاد مساكن لنا في أشخاص آخرين) والأصدقاء. كلهم جاءوا للاطمئنان والسؤال عما اذا كنا نحتاج لأي شيء."
"لم نتحدث عن الحزن أو الموت."بعد عام تقريبًا، كان من المفترض أن تقابل سارة زميلًا لها في مقهى في شارع كافنديش في مدينة سيدني، وبالصدفة مرت من أمام مدرستها الابتدائية القديمة في ستانمور.
Sara Saleh Source: Supplied
لم أزر هذه المنطقة لسنوات – هنا غرقت في بئر من الحنين إلى الماضي.
بينما كان والدا سارة يعملان في وظائف متعددة خلال النهار ويدرسان في الليل الذي لم يكن له آخر. كانت عطا جدة سارة، تمشي معها لتوصلها إلى المدرسة في الصباح وإلى المنزل عند انتهاء الدوام كل يوم.
فجرت المدرسة أنهار الذكريات في مخيلة سارة: "كان كل يوم في المدرسة يبدأ بإيماءة محرجة عندما كانت عطا توقع لدخولي في الساعة 8.45 وينتهي بـ "سانك يو" في الساعة 3 مساءً. كانت عطا بالكاد تتحدث كلمة باللغة الإنجليزية، لكن كان الجميع يعرف من تكون، كنت أحرص على هذا. كانت تطبخ لنا الملفوف وتزين لي شعري كل يوم. علمتني أن ألعب لعبة الورق "أبو الفول". كنت أتحدث عنها مع أساتذتي وزملائي في المدرسة وأي شخص كان على استعداد للاستماع إلي."
بجوار ملعب المدرسة، كانت توجد مقاعد حولها أكشاك لشواء النقانق والمخبوزات.
"هناك، بكيت وبكيت عندما قالت معلمتي السيدة صني أنني "مسلمة" - وهي تشرح سبب رفضها لطلبي بالحصول على سندويش النقانق رغم أن جميع الأطفال الآخرين حصلوا على واحدة. أوضحت لها بحرقة، ابنة السبع سنوات، "أنا أسترالية ولست مسلمة" – لم أكن أعي حينها."بعد ظهر ذلك اليوم، قررت سارة السفر إلى مصر. توقفت رحلتها في أربع دول خلال رحلة جوية امتدت لثمان وأربعين ساعة. بعدها وصلت الى الحميدية، قرية جدتها عطا، على بعد ساعتين بالسيارة من القاهرة.
Sara Saleh Source: Supplied
"مرحباً، يا خواجايا"، قال عمي مازحا. "نحن سعداء لأنك تمكنت من الوصول إلينا."
دُفنت عطا جدة سارة مع أفراد أسرتها: "معظمهم لم أقابلهم أبدا." ودُفن جدها وزوج عطا، مع عائلته في قريته خريس، على بعد ساعة بالسيارة.
عندما وصلت لشاهد قبرها، بدأت بالصلاة وقراءة سورة "الفاتحة" لروحها. لم أنفجر بالبكاء، كنت قلقة من هذا الاحتمال. بدلا من ذلك، أصبت بالذعر.
كانت هذه هي المرة الأولى التي تدرك فيها سارة أن موتها سيكون مركبا، تماما مثل حياتها كأسترالية-عربية تحمل تراثا من ثلاث بلدان مختلفة وتعيش في سيدني.
"سأكون بعيدة عن عطا. هل سأدفن مع جدو؟ ماما وبابا؟ أين سيكون أشقائي؟ ماذا لو أنجبت أطفالا؟" حتى هذه اللحظة كانت سارة تظن أن تحديات المهاجرين تقتصر على حياتهم فقط.
فهرس قصص بودكاست الهوية
بودكاست الهوية
"أعتقد أن التحدي في وجودنا وكيف يرمز لنا الآخرون." تكرر سارة معضلتها الجديدة التي أُضيفت لمعضلات الهوية التي تعيش معها بالفعل: "أين سأدفن؟ فعندما هاجر آباؤنا تركوا أجزاءً منهم في أوطانهم الأم."
بالنسبة لسارة، معركة البقاء للمهاجر لا تتعلق فقط بفقدان اللغة أو الثقافة بأكملها في البلد الجديد، بل أيضا صراع لتحمل البعد عن الأشخاص الذين نحبهم ويهمنا أمرهم في أماكن مختلفة حول العالم.
وفي الوطن المضيف، يستمتع المهاجر بنعمة الأمان والسلام والتمتع بالكثير من حقوق الانسان، ويملك جواز سفر أزرق يسمح له بالتنقل في كل مكان.
أريد أن أكون طبيعية، وأكره أن أكون مختلفًة.
في أستراليا، كانت سارة لا تشعر أنها تملك ما يكفي ليتم تصنيفها كفتاة أسترالية، على الأقل بالنسبة للمجتمع الأسترالي الأوسع/الأبيض. كذلك لا تشعر سارة التي تربت في أستراليا أنها تنتمي للبلدان العربية التي تعود جذورها إليها، حيث يعاملها الناس باعتبارها أجنبية أيضا.
هذه الهوية المعقدة أصبح يمكن اختصارها في سؤال واحد بالنسبة لها: أين ساختار مكان دفني؟Image
باغتت سارة والدتها بسؤال أرادت أن يكون به بعض الطرافة: "ماما، إلى جانب من تريدين أن تُدفني؟ هل ستختاريني أنا، ابنتك المفضلة، لنتسكع سويا في الحياة الآخرة؟ أو ستختارين تيتا، التي لديها ثمانية أطفال غيرك، ويمكنها الاختيار من بينهم؟"
لكن والدتها لم تلتقط خيط الدعابة في السؤال وردت بشكل جاد يلائم الحديث عن الموت: "سارا... كمهاجرين، مفهوم الموت بالنسبة لنا يشبه إلى حد كبير مفهومنا للوطن. يتوسع وينكمش. يتقدم ويتراجع. مثل المد والجزر. هكذا هو الموت. وهو أمر لا مفر منه. يولد الانسان في مكان ويدفن في مكان آخر. وفي المنفى، نعيش ونموت عدة مرات."
"حياتك ليست محددة بمكان واحد أو بالكلمات التي تكتب على شاهد قبرك، ولكن بذكراك والقصص التي تتركها للآخرين. نحن نعيش في نعمة كبيرة الآن، نملك حق الاختيار والتنقل والسفر لرؤية من نحبهم عبر القارات والبلدان والثقافات."
ولكن، في موتنا نطالب باحترام لا نحصل عليه دائمًا في الحياة.
هنا، سارة توصلت إلى حل معضلة الدفن بعد الموت، الوطن هو الأهل والحب، وهو أكثر من مجرد مكان على الخريطة.
"الحل لا يكمن بإيجاد مكان مناسب لدفني، ولكن في تقبلي لفكرة الموت مهما حصل. هناك الكثير من الأشخاص من حولي أحبهم ويحبونني وهذا أهم شيء، سنكون معا في أي مكان في الحياة وبعد الموت."
سارة صالح؛ شاعرة وناشطة في حقوق اللاجئين والعدالة الاجتماعية. ولدت سارة صالح في القاهرة وتعيش على أرض جاديجال/سيدني. وأمضت سارة العقد الماضي من حياتها في العمل مع منظمة العفو الدولية ومنظمة كير الدولية بين أستراليا والشرق الأوسط. وتم إصدار أول مجموعة شعرية لسارة في عام 2016، وتبحث وتكتب في قضايا النزوح والهجرة والهوية وشؤون المرأة. تم نشر قصائدها باللغتين العربية والإنجليزية على SBS Life، ومجلة الشعر الأسترالية ، ومجموعات شعر بانكستاون وغيرها من المنتديات. سارة مؤسسة مشاركة لمنتدى شعراء دبي وعمان. وتشارك بشعرها في مهرجانات وطنية ودولية، من نيوزيلندا إلى نيويورك.
هذه الحلقة الأولى وجزء من بودكاست الهوية - My Arab Identity، الذي يحكي فيه شباب عرب أستراليون كيف يتعاملون مع التحديات التي تواجههم كحاملين لهوية مختلطة - عربية غربية. يمكنكم سماع باقي القصص وقراءتها .
في الحلقة الثانية من بودكاست الهوية نتعرف على أماني حيدر التي عاشت حياة اجتماعية مقيدة وُحرمت من والدتها في ظروف بشعة. تجربتها مع هجرة والديها الى أستراليا تتمحور حول خط رفيع بين التوقعات التي يفرضها المهاجرون على أطفالهم، وقسوتهم في إجبار أبناءهم على تلبية هذه التوقعات. أماني تقف اليوم مثالا حيا لمكافحة العنف ضد المرأة بعد أن قُتلت والدتها على يد أبيها قبل أربعة سنوات.
استمع للحلقات التالية من بودكاست الهوية
العنف الأسري: أبي قتل أمي
استمعوا إلى قصة سارة صالح بالضغط على الرابط الصوتي المرفق بالصورة أعلاه.