"طبعا لدي امتياز عن الآخرين. الملايين يموتون في البحر الأبيض أو المحيط الهادئ لأنهم يريدون الحصول على حياة أفضل. وأنا أملك ميزات هذه الحياة الفضلى التي يبحثون عنها."
فريد فريد صحفي وباحث مصري أسترالي يقيم الآن في القاهرة.
قررت عائلته الهجرة من مصر في التسعينات بحثا عن فرص عمل ومستقبل أفضل لهم ولأطفالهم. وكانت وجهتهم الأولى أمريكا التي يسميها الكثيرين بأرض الموعد. ولكن، قرر والده تغيير مخطط الرحلة من دون سابق انذار.
"قام أحد أصدقاء والدي بإقناعه للهجرة الى نيوزيلندا. وفعلا تغيرت وجهتنا. وأنا أذكر تماما اليوم الذي سافرنا فيه. كنت أحمل أنا وأختي كتبنا المدرسية المصرية على ظهرنا، التي كانت تبلغ 12 كغم. طلب منا والدينا أن نأخذها لنتابع دراستنا فيها في نيوزيلندا، حتى لا تضيع علينا السنة الدراسية في مصر في حال قررنا العودة."
Farid Farid with his friends at Mount Warning in Murwillumbah, NSW, 2005. Source: Farid Farid
نيوزيلندا
وصلت العائلة الى نيوزيلاندا في يناير كانون الثاني من عام 1996. ووضعوا لأنفسهم فترة ثلاثة أشهر للتأقلم هناك، وان لم يتمكنوا من ذلك، كانوا ينون العودة.
"طبعا كنا نشعر بحزن واشتياق لأصدقائنا وعائلتنا في القاهرة. والداي هاجرا على كبر، وكانت لديهما مكانة اجتماعية مرموقة في مصر كطبيبين. لم تكن الرحلة سهلة في البداية. كنا نتحدث قليل من اللغة الإنجليزية. ولكن كانت المشكلة الأكبر في اللهجة النيوزلندية والمصطلحات الجديدة علينا."
"أذكر في يوم ان مدرستي كانت تقيم يوما رياضيا ضخما في ملعب كبير خارج المدرسة لجميع الصفوف. ولن أنسى أنني الوحيد الذي ذهبت يومها بالزي المدرسي ولم أرتدي الزي الرياضي، لأنني لم أفهم ما تعنيه كلمة Gear (العدة الرياضية) كما سمعتها."
ومع مرور القليل من الوقت، استطاع فريد ان يجد لنفسه مكان في مجتمع المدرسة لأنه كان طفل اجتماعي ويحب المزاح. فلم تمنعه اللهجة النيوزيلندية الثقيلة من فتح قناة للتواصل والتعارف.
"أذكر اليوم الذي شعرت فيه بالاندماج في المدرسة جيدا. كنا في المكتبة أنا وغيري من التلاميذ في الفصل، وقتها قلت جملة، وكنت أحاول أن أقول نكتة في ذات الوقت، قلتها وضحك زملائي، حينها شعرت أنني أستطيع أن أكون نفسي والاندماج في مجتمعهم."
كان فريد على وعي تام بالجهد الذي بذله والديه والتنازلات التي قدماها من أجل الخروج من مصر وتحقيق أحلامهما في مكان ثاني. وكان شاهدا على بعض من التنمر الذي واجهاه والذي يواجه الكثير من المهاجرين الذين يحصلون على الإعانات الحكومية.
"أنا أكره نوع من العنصرية أو التنمر على الأشخاص الذين يحصلون على اعانة من الدولة. نحن وبكل فخر أخذناها وهذا من حقنا. كنا ما نزال نحاول الوقوف على أقدامنا. والداي باعوا كل ما يملكون في مصر ليقوموا بهذه الرحلة من أجلنا ومن أجل أن يستثمرون في هذه البلاد."
"رأيتهم يكافحون وهم يعملون ويدرسون من أجل امتحان معادلة شهاداتهم التي حصلوا عليها من جامعة مرموقة في مصر، ولكن لم يعترف بها دوليا وهذا حقا أمر مهين."
ارتباط فريد وعائلته باللغة العربية وبمصر وثقافتها لم يبهت للحظة. وعلى الرغم من بعد المسافة بين القاهرة ونيوزيلاندا، الا ان فريد وعائلته، وفي وقت قصير استطاعوا أن يجدوا مجتمعا مصريا من حولهم. وكما يقول المثل اجتماع السواعد يبني الوطن واجتماع القلوب يخفف المحن.
"نقلنا القاهرة بحياتها الاجتماعية الى نيوزيلندا. قبل هذا، دخلت العائلة بأكملها في موجة من المشاكل النفسية. لم نستطيع التأقلم في البداية. كانت البلد تقفل الساعة الخامسة مساء. فلم يكن لدينا حياة اجتماعية ولم يكن لدينا أقارب. وبعدها اقتصرت دائرة صداقاتنا على المجتمع الكنسي."
Farid Farid with family members in Queensland. Source: Farid Farid
أستراليا
عندما أتم فريد الـ 18 عاما، بدأت العائلة تشعر أن نيوزيلندا ضاقت عليهم وعلى حجم طموحاتهم. وبمحض الصدفة، الحظ أو شاء القدر، أن تقرر العائلة الهجرة الى أرض الفرص أستراليا.
"في هذا الصيف بالتحديد، كل أسبوع كان يقوم اثنان أو ثلاثة من أصدقائي بالهجرة. فعندما قررت عائلتي الهجرة الى أستراليا كنت جاهزا."
وصلت العائلة الى ولاية كوينزلاند في عام 2002. والتحق فريد بالجامعة هناك وأنهى بكالوريوس في العلوم السياسية واللغة الفرنسية. وبعدها شعر فريد، مجددا، ان مدينة بريزبان ضاقت عليه ولم يجد فيها الفرص التي سيحقق فيها ذاته وطموحه.
"اتجهت الى سيدني وأنا في أوائل العشرينات من أجل فرص العمل، وحتى أستطيع أن أطور من نفسي ومن أشعر باستقلالي الذاتي.
Journalist Farid Farid Source: Farid Farid
الكفاح والاستقلالية
"حصلت على منحة من جامعة غرب سيدني لأستكمل دراساتي العليا. هناك، عملت في جميع المجالات التي فتحت أبوابها لي: حارس للأمن، مترجم، كاتب مقالات للرأي في الجرائد الأسترالية ومدرس في الجامعة، وفي النهاية قررت التخصص في الصحافة والتركيز على العمل فيها."
بالرغم من ثقافته وإنجازاته ونجاحته في المجال الأكاديمي والصحفي، كان هناك نظرة ما زال ينظرها له بعض من أفراد المجتمع أزعجته أكثر من أي نوع آخر من أنواع العنصرية الواضحة والصريحة ضد المهاجرين.
أكثر ما كان يوجعني أن يقوم أحدهم بإشعاري بأنني أقل منه في المستوى العلمي والاجتماعي، مثل أن يقول لي شخص لغتك الإنجليزية جيدة حقا، أو لم أكن أتوقع أن تكون لبقا في التعامل هكذا. وكأنه هو المعيار الذي يجب أن أقارن به.
كان فريد يشعر دائما أنه مختلف عن باق أبناء جيله في أستراليا. مثل شعور بعض المهاجرين الجدد بثغرة فكرية، اجتماعية أو ثقافية ما بينهم وبين المهاجرين القدامى وأبناءهم الذين ولدوا في أستراليا.
"أنا كنت مختلف عن باق أبناء جيلي، جيلي الذي ولدا ونشأ في أستراليا ولا يعي أو ليس له شأن بما يحصل في مصر أو العالم العربي."
ومع انفجار ثورة يناير في مصر عام 2011، شعر فريد بحرقة شديدة بأنه موجود في أستراليا ولم يتمكن من أن يكون هناك ليكون جزءا منها.
"عندما انفجرت الثورة كنت مهتم بالذي يحصل هناك. وهذا طبيعة عملي أيضا."
Farid Farid featured in "My Arab Identity" podcast. Source: Farid Farid
مصر
ارتباط فريد بمصر وانتمائه لها لم يزول مع مرور السنوات. والفضل يعود لوالده ووالدته الذين واظبوا على تقوية الرباط بين أطفالهم وجذورهم الثقافية. ولكن، لم يعرفوا أبدا أن نتيجة هذا سيكون قرار فريد ان يتركهم يوما ما، ويترك أستراليا ويعود للعيش في مصر.
"كان وجودي في أستراليا في هذه الفترة أكبر ندم أشعر به في حياتي حتى الآن. لأن هذه كانت أهم فترة من 2011 و2013 لأن أكون هناك ولأي شخص يريد أن يشعر بمصريته، وأن يكون هناك في وسط الأحداث في العالم العربي وليس فقط في مصر."
"أفكاري هذه أثرت بي جدا، وبدأت أتساءل: لماذا أنا هنا، في أستراليا؟ أستراليا بعيدة جدا جغرافيا عن وطننا العربي. وفعلا كثرة التفكير بهذا دفعني للعودة والعيش في مصر منذ ست سنوات مضت."
الآن أشعر بارتياح، ولكن أعي تماما بأنها ليست خطوة سهلة وغير منطقية أيضا.
من أهم الأسباب التي دفعت فريد للعودة والعيش في مصر كانت أن يساهم في إعادة بناء بلد جديد.
"أنا وغيري من ذوي المهارات المختلفة، مهندسين، أطباء، صحفيين، فنانين وغيرهم من المهنين عدنا لشعورنا بأهمية وجودنا ووجود فكرنا التقدمي في بلادنا أو بلاد أهلنا الأصلية، لننشر هذا الفكر التقدمي لبناء مجتمع أفضل هناك."
"قد تكون الثورة انهزمت، طبعا من الواضح أنها هزمت سياسيا، هناك معتقلين بالألفات في السجون، أشخاص يموتون ويختفون، من أصدقائي، أشخاص أعرفهم شخصيا. هذا حقا مؤلم، أن أقوم ببناء علاقة مع شخص وفجأة أسمع بأنه اختفى أو مات أو سجن."
"لكن، الشيء الوحيد الذي ما زلنا نتمسك به الآن، ويشعرنا بأن الثورة لم تهزم تماما هو شعورنا بأن المجتمع تغير غصبا عنه، لأننا نستطيع أن نطرح قضايا سياسية اجتماعية دينية فلسفية بطريقة لم يستطع أحدا أن يطرحها قبل عشرة سنين."الشعور بالانتماء للمهاجرين وابناءهم شعور معقد ومركب ولن يتشابه بين عائلة وأخرى. كل عائلة وشاب وفتاه لديهم تجربة وتحديات يمرون فيها تساهم في تكوين هويتهم الثقافية المختلطة.
Farid Farid Source: Farid Farid
"يجب أن أكون صريحا، لن نكون أستراليين. قد يستطيع البعض أن يتبنى هوية مختلطة كما يتبنى الكثيرين من أبناء الوطن العربي أصولا مختلطة مثل العرب الأرمن وهكذا. ولكن في النهاية سنبقى عربا."
لكل شخص الحق في الهجرة ونسيان الذكريات المؤلمة، طبعا لأن الوطن العربي بجميع حكوماته خذلنا.
"ولكن أن أرى في ظل تجربتي الشخصية، ليس هناك شيء يسمى أنا أسترالي، وأنني سأبدأ صفحة جديدة بيضاء في حياتي بعد الهجرة. لأن مفهوم الأسترالي نفسه غير متفق عليه. أستراليا مكونة من حوالي 200 جنسية وعلى رأسهم السكان الأصليين."
ومع هذا لا ينكر فريد امتياز حمله للجنسية الأسترالية، والامتيازات التي تقدمها أستراليا لمواطنيها. وشعور فريد بالانتماء الى مصر حتما شعور فريد من نوعه.
"أنا طول عمري مصري. نعم أفتقد نيوزيلندا، وكنت ألعب كرة الرجبي وأن صغير وأشجع فريق الـ All Blacks - فريق الاتحاد الوطني النيوزيلندي للرجبي. وعندما أعود الى أستراليا أقوم بأكل فطائر اللحمة والنقانق الأسترالية الشهيرة، الأكلات التي كنت أتناولها في الطفولة والتي تشعرني بأنني منتمي للبلد."
ولكن انتمائي يعود الى أهلي أولا أين ما كانوا وأصدقائي، وهويتي مصرية طبعا وأفتخر بها.
فريد فريد صحفي وباحث مقيم في القاهرة. عاش في نيوزيلندا وكوينزلاند وألمانيا. كتب للعديد من الصحف الأسترالية والعالمية منها The New York Times و The Guardian و Sydney Morning Herald وغيرها. نُشرت أعماله الأكاديمية في مجلات مثل Social Semiotics و Borderlands.
يمكنكم متابعة بودكاست الهوية عبر البحث عن على منصات تحميل البودكاست المفضلة لديكم للاستماع الى الحلقات الجديدة أسبوعيا فور صدورها مجانا.