يعود آب الذي لم يعد يشبه ذاته للسنة الرابعة بخجل كبير كي لا يربك جرحًا ساخنًا على مساحة وطن. فجرح انفجار الرابع من آب يئن فيما العدالة التائه تبحث عن ذاتها لعلها تختم جرحًا لن يعيد من غابوا، ولكن تضمد ذاكرة وطن يطوي صفحات التاريخ دون أن يقرأه.
Families of victims of the Beirut Port blast and Cecil Roukouz who lost her brother Joseph in the disaster. Credit: Cecil Roukouz
كانت الصحافية دلال معوض في لبنان عندما وقع الانفجار، ورغم انها كانت تبعد عن العاصمة بيروت 17 كيلومترًا الا ان الالتصاق النفسي مع هذا الجرح دفعها لتبادر وتكون من أوائل الصحافيين الذين اختاروا الّا تضيع معالم "الجرح الجريمة" في نسيان طوعي يرسم مقاربة لبنان مع تاريخه المثقل بالجرائم والحروب التي تنتظر الحقيقة.
اكتشفت معوّض خلال تقاريرها، أن النساء هن اللواتي يتركن في الخلف، ومن خلال قصصهن يجب إعادة بناء تاريخ الشرق الأوسط لذا شرعت في تسجيل قصص أولئك الذين التقت بهم، والنساء اللواتي تعرضن للتمييز منذ فترة طويلة والتي لم تُرو قصصهنّ.
مرّ الوقت ثقيلًا جدّا على جرح لم يشف لذوي ضحايا انفجار مرفأ بيروت. إنه جرح يصارع من أجل العدالة في دولة لم تقدم حتى كلمة اعتذار.
الرابع من آب
تأتي الذكرى الرابعة لانفجار مرفأ بيروت والعدالة لم تجد طريقها بعد لترميم ما هدم داخل كل مواطن لبناني، ما يُبقي الجرح بعيدًا عن مسيرة الشفاء الجماعي.
تستذكر معوّض ذاك اليوم الذي شطر حياتها وحياة كل لبنانية ولبناني بين ما قبله وبعده اذ تقول:
"استذكر انني كنت في الحديقة وسمعت ما يشبه صوت الطيران الإسرائيلي وكان اقوى صوت اسمعه في حياتي وانا عايشت عدة حروب"،
اسأل ذاتي لماذا بقيت أنا على قيد الحياة ومات آخرون. اعايش شعورًا بالذنب
تقف امام هول ذاك اليوم الذي غيّر معالم مدينتها وحياة كل لبنانية ولبناني:
"هناك ما قبل وما بعد الرابع من آب لدى كل لبناني. كسر شيء ما في داخلي ولن اعود لما كنت عليه ما لم تتحقق الحقيقية. ما كسر فيّ لن يُرمّم".
تعتبر معوّض أن تغطية هذا الحدث كان الأصعب بالنسبة لها كصحافية تمرّست على ترك مسافة بينها وبين القصة فتقول:
من أصعب الأشياء اني كنت صحافية في الرابع من آب، كان الألم شخصيًا الى حد كبير ولم أتمكن من ترك مسافة بيني وبين الحدث
"واتخذت القرار بعدم تعرية نفسي من انسانيتي ومشاعري لأنني جزء من القصة"
توثيق للذاكرة الجماعيّة
تكمن أهمية الكتاب بالنسبة لدلال معوّض أنه يشكل نوعًا من الذاكرة الجماعية وتوثيقًا لتاريخ لبنان الحديث، ولكن من وجهة نظر المرأة اللبنانية الناجية التي تدفع الثمن الأغلى في الحروب سيما وأن التاريخ لطالما كتب بحبر الأقوى وليس بدماء الضحايا. تقول معوّض:
" نادرًا ما يكتب التاريخ من وجهة نظر الضحايا وخاصة النساء"،
من المهم جدًا ان نترك المرأة تكتب التاريخ وهي التي تصنع التاريخ
معوض التي اختارت ان توثق الذاكرة الجماعية من وجهة نظر النساء الناجيات، تعتبر أن للمرأة صوت وما ينقصها هو المساحة الآمنة للتعبير اذ تقول:
"إن المرأة التي تصنع التاريخ يجب ان تشارك في كتابته، ولكن تنقصها المساحة الآمنة للتعبير" ،
" لا نملك مساحة للشفاء كإناث في النزاعات وانا استمد القوة من اللواتي بُحن لي بجراحهن".
قتلوا ام ماتوا؟ انفجار ام تفجير؟
تبحث الصحافية دلال معوّض عن مصطلحاتها بدقة كبيرة وهي توثّق جرح وطن بأكمله في الرابع من آب، كي لا تذوب الحقيقة في تمييع المصطلحات فتقول:
أبحث عن المصطلحات الدقيقة، وبالنسبة لي هذا تفجير وليس بانفجار رغم غياب الأدلة الكافة
" قتل الضحايا بالإهمال وهنالك اثباتات كافية تؤكد ذلك من تخزين مادة الأمونيوم والتقصير في تحمل المسؤولية"
"يمكننا الإشارة الى الإهمال الجرمي في هذه الواقعة. قتل الناس ولم يموتوا وذلك بسبب الإهمال والمصالح السياسية ومشاركة لبنان في صراعات إقليمية معينة".
العدالة الضائعة
ما يجمع النساء في كتاب “All She Lost” هو غياب العدالة وما يؤلم معوّض انّ لبنان لم يقترب حتى اللحظة، خطوة نحو الحقيقة لذا تؤكد الحاجة الى هيئة تقصّي حقائق مستقلة ولكنها لا ترى ان العدالة آتية من الداخل:
"يؤلمني أن بعد سنوات أربعة لم نقترب خطوة نحو الحقيقة واظن ان العدالة ستبقى بعيدة بوجود هذه الطبقة السياسية في الحكم"،
"لن نتمكن من المضي قدمًا دون مواجهة الحقيقة ومعرفة من هو المسؤول"
معوّض الأم التي تركت لبنان مرغمة بعد الرابع من آب تتمنى لابنتها يَسما ان تتعلّق بلبنان رغم الألم:
"اريد ليَسما ابنتي ان تحب لبنان الذي غادرناه بعد الانفجار وأن تتعلق بجذورها"،
رغم علاقتي المتناقضة مع لبنان بين مشاعر الحب والكراهية التي يختبرها كل لبناني، أتمنى الا تفقد ابنتي الأمل لأنني انا فقدته
حارس القمح بات قمح الوطن
كان غسان حصروتي "حارس القمح" في مرفأ بيروت. لم يعلم أنه أثناء تأدية مهام عمله في أهرامات القمح، سوف يصبح هو قمح الوطن في الرابع من آب/أغسطس 2020. هناك وفي مكان عمله، أغمض غسان عينيه دون أن يودع أم غسان التي ما زالت تنتظره حتى اللحظة.
Tatiana Hasrouty with her father, Beirut blast victim Ghassan Hasrouty
هناك بقي غسان عالقاً تحت الأنقاض لمدة أسبوع كامل والعائلة المفجوعة تنتظر خبراً من تحت الركام طيلة أربعة عشر يوماً.
ماذا تقول تاتيانا حصروتي الابنة والمحامية المناضلة التي خسرت والدها كما العدالة، في الذكرى الرابعة لعدالة ضائعة؟ لماذا تعتذر منه؟ وماذا تقول لجرحها الذي ينزف كل يوم؟
الإجابة في الملف الصوتي المرفق بالصورة أعلاه.
استمعوا لبرنامج "Good Morning Australia" من الاثنين إلى الجمعة من الساعة السادسة إلى التاسعة صباحا بتوقيت الساحل الشرقي لأستراليا عبر الراديو الرقمي وتطبيق SBS Audio المتاح مجاناً على وعلى القناة 304 التلفزيونية.